الغيبيات الخمس في سورة لقمان

الغيبيات الخمس في سورة لقمان

تُعدّ سورة لقمان واحدة من السور المكية التي حظيت باهتمام بالغ بين العلماء والمفسرين لما تحتويه من حكم ومواعظ بليغة تستهدف توجيه الإنسان نحو الطريق المستقيم. تعتبر هذه السورة من السور التي تحمل العديد من الموضوعات التي تلامس واقع الإنسان بكل جوانبه، وتدعو إلى التفكر والتأمل في آيات الله الكونية والشرعية. من بين المواضيع الهامة التي تناولتها السورة، كان الحديث عن الغيبيات الخمس التي وردت في آيةٍ واحدة، حيث قال الله سبحانه وتعالى في الآية 34 من سورة لقمان: “إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَكْسِبُ نَفْسٌ وَمَا تَفْعَلُونَ”.

هذه الآية تتضمن خمس غيبيات هي: علم الساعة، إنزال الغيث، ما في الأرحام، ما تكسبه النفس، وما تفعله. وكل واحدة من هذه الغيبيات لها معانٍ عميقة ودلالات هامة على مستوى الفرد والمجتمع. وسوف نتناول في هذا المقال هذه الغيبيات الخمس بالشرح المفصل لتبيان معانيها وأثرها في حياة الإنسان.

1. علم الساعة

الغيبة الأولى التي وردت في الآية تتعلق بعلم الساعة. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ”. الساعة هنا تشير إلى قيام القيامة، وهي النهاية الحتمية التي سيشهدها الكون وتُبعث فيه الأرواح للمحاسبة. وقد أكد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في عدة مواضع أنه لا أحد يعلم موعد الساعة إلا هو، كما قال تعالى في سورة الأعراف: “إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ”.

إن معرفة الإنسان بموعد الساعة هي أمرٌ غير ممكن، وتعد هذه المعرفة من خصائص الله سبحانه وتعالى التي لا يشارك فيها أحد. وقد أُمر المسلمون بالاستعداد لهذه الساعة عبر العمل الصالح والتوبة والتقوى. وهذا الغيب يبرز إحدى صفات الله العظمى وهي العلم المطلق، والذي يتجاوز كل حدود المعرفة البشرية. في حين أن الإنسان لا يعلم متى ستقوم الساعة، فإنه مطالب بالعيش في ظل هذا الغيب، ويجب عليه أن يعمل صالحًا ويعبد الله كأن الساعة قد قامت.

2. إنزال الغيث

الغيب الثاني الذي ورد في الآية يتعلق بإنزال الغيث. في قوله تعالى: “وَيُنزِلُ الْغَيْثَ”، يشير الله سبحانه وتعالى إلى قدرته على التحكم في نزول المطر. يعد المطر من أعظم نعم الله على الإنسان وعلى الأرض، حيث يُحيي الأرض بعد موتها ويزيد من خصوبتها. وكما قال الله في سورة النمل: “وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بَرَكَةً فَأَمْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ”.

المطر هو سر الحياة، ومن خلاله تكتمل دورة الحياة على الأرض، وتتمتع جميع الكائنات الحية بفرصة الاستمرار والتجدد. ولا شك أن إنزال المطر لا يكون من فعل البشر، بل هو من فعل الله الذي يقدّر متى وأين وكيف ينزل المطر. فالبشر قد يخطئون في التنبؤ بأوقات المطر أو شدته، لكن الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يعلم متى يحتاج البشر والأنعام إلى الغيث، ويعلم إذا كان المطر سينزل في مكان معين أو لا. هذه الحقيقة تجعل الإنسان يعترف بعجزه عن التحكم في الطبيعة، ويدعوه إلى التواضع والاعتراف بالنعمة.

3. ما في الأرحام

الغيب الثالث الوارد في الآية يتعلق بما في الأرحام. قوله تعالى: “وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ”، يشير إلى أن الله وحده يعلم ما في الأرحام من ذكورة أو أنوثة، ما إذا كان الجنين سيكون صالحًا أم لا، وما إذا كان سينجو أو يموت في مرحلة الحمل أو بعد ولادته. هذه الحقيقة تبرز علم الله الكامل الذي يتجاوز قدرة البشر على معرفة ما سيحدث داخل الأرحام.

إن هذه المعرفة تتعلق بجميع جوانب الجنين من حيث صفاته الجسدية والروحية، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ”. لذلك، معرفة الله بما في الأرحام تدل على أن كل شيء قد فُصل بقدر من عند الله، وأنه لا شيء يحدث مصادفة أو دون علمه.

4. ما تكسبه نفس

الغيبة الرابعة تتعلق بما تكسبه النفس، كما قال الله تعالى: “وَمَا تَكْسِبُ نَفْسٌ”. تشير هذه العبارة إلى أن الله وحده يعلم تمامًا ما تكسبه كل نفس من الأعمال، سواء كانت خيرًا أو شرًا. فالإنسان قد يظن أن أعماله خفية ولا يراه أحد، لكن الله يعلم كل فعل أو كلمة أو حتى نية في قلبه. هذه المعرفة تشمل جميع الأعمال البشرية، سواء كانت في الخفاء أو العلن.

فالله يعلم ما تكسبه نفس الإنسان من خير أو شر، وهو ما يوجب على المسلم أن يكون دائمًا مراقبًا لأفعاله وأقواله. في سياق هذه المعرفة، يصبح للإنسان أجر في عمله الصالح، ويُحاسب على كل عمل يقترفه. كما أن هذه الغيبية تدعو المؤمنين إلى التقوى والصدق في أعمالهم، وأن يتحققوا من نية كل فعل قبل أن يقدموا عليه.

5. ما تفعله

أما الغيب الخامس في الآية، فهو ما تفعله النفس. يقول الله تعالى: “وَمَا تَفْعَلُونَ”. يشير هذا إلى أن الله يعلم كل ما تفعله النفس البشرية، من أفعال وعادات وتصرفات. الله يعلم أفعال الإنسان في جميع مراحل حياته، سواء كانت هذه الأفعال مرضية له أو لا. إن هذه المعرفة تشمل جميع الأعمال الظاهرة والخفية، ما يعكس السيطرة المطلقة لله على كافة الأفعال البشرية.

هذه المعرفة الإلهية تهدف إلى تحفيز الإنسان ليكون دائمًا على طهارة من الداخل والخارج، وأن يبتعد عن أي أفعال مشينة أو محظورة. كما تدعوه إلى أن يكون أكثر وعياً بتصرفاته وأعماله، ويعمل جاهدًا في سبيل تحسين نفسه وتوجيهه نحو الخير.

خاتمة

إن الغيبيات الخمس التي وردت في سورة لقمان هي موضوعات تحمل في طياتها الكثير من الدلالات والتوجيهات التي تساعد المؤمن على التوجه إلى الله سبحانه وتعالى بخشوع. إن الإيمان بهذه الغيبيات يساهم في تهذيب النفس، ويعزز من إيمان المسلم في قدرة الله المطلقة، ويحثه على الاستعداد ليوم الحساب. الله تعالى وحده يعلم كل شيء، ومن خلال هذه الغيبيات نتعلم ضرورة التواضع والاعتماد الكامل على الله في حياتنا اليومية.